العودة المحسوبة: كيف يقرأ يحيى ولد حدمين التوقيت السياسي؟ سيد امحمد أجيون

هلا ريم الاخباري: في مشهد سياسي يضجّ بالتأويلات وتتنازعه القراءات، اختار الوزير الأول الأسبق يحيى ولد حدمين أن يعود إلى دائرة الضوء من أوسع أبوابها، عبر مقابلة إعلامية نادرة مع وسيلة إعلام مستقلة، رغم مواقفها السابقة منه خلال السنوات الماضية.
هذه العودة لم تكن خطوة عابرة أو خروجًا إعلاميًّا اعتياديًّا، بل بدت أقرب إلى عودة محسوبة بعناية لرجل يعرف جيدًا كيف يقرأ اللحظة ويستثمر المنبر.
وقد حصد إعلان المقابلة مئات آلاف المشاهدات وترقبًا واسعًا من المهتمين بالمشهد السياسي، قديمه وحديثه، وحملت المقابلة في طياتها رسائل سياسية واضحة الدلالة، عكست خبرة الرجل الطويلة في إدارة الخطاب وتوجيه النقاش العام.
وقد نجح ولد حدمين، من خلال هذه المقابلة، في رفع مستوى الحوار السياسي الذي انحدر في الأيام الأخيرة إلى سجالات فئوية وهوياتية ضيقة لا تخدم الوطن ولا ترتقي بالخطاب العام، فجاءت كلماته بمثابة دعوة لإعادة النقاش إلى مربّعه الوطني الأوسع، بعيدًا عن الاصطفافات الضيقة والمزايدات الشعبوية.
سردٌ لمسارٍ شخصي ومسيرة وطنية
استهلّ ولد حدمين حديثه بقراءة تأملية لمسيرته الشخصية والمهنية، منذ انتقاله إلى نواكشوط في مطلع سبعينيات القرن الماضي، مرورًا بمسيرته الأكاديمية خارج البلاد، وصولًا إلى تقلده مناصب قيادية في الدولة بفضل الانضباط والعمل الجاد.
هذه المحطات لم تُسق كاستعراضٍ لسيرة ذاتية، بقدر ما كانت محاولة لإبراز منهج الرجل في الصعود عبر الكفاءة، في زمن باتت فيه المسارات السياسية تُختصر أحيانًا في الولاءات والظروف.
فتح الملفات الشائكة بلا مواربة
ولم يتردد الوزير الأول الأسبق في التطرق إلى ملفات حسّاسة شغلت الرأي العام خلال فترة حكمه.
وقد كشف عن خلفيات قرار قطع العلاقات مع قطر، موضحًا أن الخطوة جاءت حفاظًا على المصلحة العليا للوطن وصونًا لسيادته، وذلك وفقًا للأعراف الدبلوماسية، وبعد اجتماع ضمّ آنذاك رئيس الجمهورية والوزير الأول وقائد أركان الجيوش.
كما تناول دوافع تغيير العلم والنشيد الوطنيين وحلّ المجلس الدستوري، موضحًا أنها كانت جزءًا من رؤية إصلاحية مؤسسية وليست قرارات ارتجالية.
وفي السياق ذاته، أضاء ولد حدمين على جهوده في مكافحة الفساد، وعلى الطفرة التي شهدها قطاع البنى التحتية خلال فترة توليه رئاسة الحكومة، لا سيما في مجال الطرق والمشروعات الاستراتيجية التي وصفها بـ«التحول النوعي» في المسار التنموي، مشددًا على أنها ثمرة عمل جماعي وفريق وطني هدفه خدمة المواطن وترسيخ الدولة.
قراءة سياسية في انتخابات 2019
وفي حديثه عن انتخابات 2019، قدّم ولد حدمين موقفه الواضح من مرشح السلطة آنذاك، كاشفًا النقاشات التي دارت داخل دوائر القرار بشأن المرشح والخلفيات السياسية التي وجّهت قراره، مع تأكيده أن «السلطة نظام مستمر» يقوم على توزيع الأدوار لا القطيعة بين الأجيال السياسية.
ولم يخلُ حديثه من إشارات ذكية إلى قضايا مالية ضخمة ما تزال موضع اهتمام داخل الأوساط السياسية، في تلميح إلى أن بعض الملفات تحتاج إلى قراءة أعمق من منظور التاريخ لا من زاوية اللحظة الراهنة.
رسائل الحاضر والمستقبل
لم تكن رسائل ولد حدمين حبيسة الماضي، بل امتدت إلى الحاضر والمستقبل.
فقد دعا مراكز النفوذ الجديدة إلى تجنّب منطق تصفية الحسابات الشخصية تحت غطاء الصلاحيات، مشددًا على أن ممارسة السلطة يجب أن تبقى ضمن الأطر المؤسسية وبعيدة عن الاعتبارات الضيقة التي تُضعف الدولة ولا تخدم الاستقرار.
وفي حديثه عن علاقاته بزملائه في السلطة، أكد أن تلك العلاقات كانت في الأصل مهنية، تحوّل بعضها إلى صداقة واحترام متبادل ما زال قائمًا حتى اليوم، لافتًا إلى أنه لا يتناول تلك المرحلة إلا في سياقها المؤسسي.
كما توقّف عند نماذج واجهت محاولات إقصاء ومضايقة رغم نزاهتها وتعفّفها عن المال العام، مؤكدًا أن «الحق ينتصر في نهاية المطاف»، في إشارة إلى قناعته بقدرة الدولة على تصحيح مسارها مهما طال الزمن.
عودة الرجل… بأدوات الدولة وخبرة السياسة
بهذا الظهور الإعلامي، بدا واضحًا أن يحيى ولد حدمين لا يسعى فقط إلى استعادة موقعه في المشهد السياسي، بل إلى إعادة تشكيل صورته أمام الرأي العام بصفته رجل دولة ظلّ وفيًا لقناعاته، جريئًا في مواقفه، دقيقًا في لغته، ومدركًا لحساسية التوقيت وذكاء الخطاب.
إنها عودة تحمل في طياتها ما هو أبعد من مجرد مقابلة إعلامية؛ إنها عودة إلى المشهد بوعي سياسي عميق، وأدوات رجل خبر دهاليز السلطة، ويعرف جيدًا أن السياسة لا تُمارس بالصوت العالي بقدر ما تُصنع بحنكة التوقيت ودقّة الرسائل.