منوعات

ذاكرة خالدة : الشيخ محمد محفوظ ولد محمد الامين ، رحلة الطلب ومحطات العطاء

ولد مولود جديد لأسرة “أهل محمد ا لأمين ولد ابَّ، ولد السعيد” في أحد أيام 1934م… تباشرت الأسرة بالمولود، وتمنت على الأيام فيه أن تجلعه عند أمانيها التي لا تعرف إلا التحليق…

لم تكتمل الفرحة فما زال مشكل الاسم الذي تقتضي عادات المحافظين من ذلك الجيل الأصيل الاعتناء به، والاهتمام بأثره النفسي والعَلَمِيِّ على المولود الجديد؛ فقلبت أوجه الأسماء واختير أحلاها، وأكثرها فألا، فلما انتثرت كنانتها لم يجد المشفقون اسما أفضل في الأذن، ولا أدل في التعبير، ولا أحسن في العَلَمية من اسم محمد صلى الله عليه وسلم، فكان اختيار جزء الاسم الأول؛ لكن ما زال المشكل يقف أمام المولود الجديد ففي مجتمع “المحمدين” لا تبقى لمحمد علميته، فكل الناس يتسمون بهذا الاسم في هذا المجتمع الإسلامي المحافظ، فكان لا بد من إضافة صفة تجمع بين شفقة المحبين، وفأل الحالمين؛ فكان الاختيار على صفة الحفظ وكان “محمد محفوظ”، فانتظم الاسم الكامل للمولود الجديد “محمد محفوظ ولد محمد الأمين”.

تربى المولود الجديد محمد محفوظ ولد محمد الأمين، تحت رعاية المحبين، وأعين المشفقين.. الذين لم تلههم الشفقة عن الأماني، ولم يشغلهم الحب عن الأحلام، فكانوا يتمثلون وهم يربونه كلمات صفية:

“من قال إنني أبغضه! فقد كذبْ

وإنما أضربه لكي يلبّ

ويهزم الجيش ويأتي بالسّلب

ولا يكن لماله خبءٌ مخبّ

يأكل ما في الطّلِّ من تمرٍ وحبّ”؛

بل ويعيشون في تربيته جوا نفسيا متناقضا يجمع بين الحب الشديد والحرص الشديد على المصلحة، بين أن لا يجد الابن الحبيب الدلال المفسد، في حين لا يفقد التربية الخشنة التي تقتضيها البيئة، وتشير إليها تقاليد ونصائح من باب:

“… فالضرب ينفعهم والعلم يرفعهم

لولا المهابة ما خطوا وما كتبوا”

يعيشون تلك الظروف وقد حسموا ترجيح تعجل ابن عباس في طلب العلم على تأخر أشهب رغم مالكية الأخير؛ ويرفعون شعارا من قبيل:

“إن الغصون إذا قومتها اعتدلت

ولن تلين إذا قومتها الخشب”

ومن قبيل:

“التعليم في الصغر كالنقش في الحجر”.

بدءوا معه وتلك الأفكار تحدوهم، وتوجه بوصلتهم، إلا أن علو همة الصبي وسهولة مراسه، كانا وراء المفاجئة، فقد جاء الصبي أسبق من الريح في طالب العلم، فتحول الاهتمام إلى تحصينه بالحي القيوم، والسعي الحثيث لإرواء غلته، وإشباع نهمه العلمي وفضوله الثقافي، فلم يكد الشاب يبلغ الأشد حتى أكمل العلوم الموجودة في بيئته، بل وزاد عليها فحفظ بعضا مما لم يجد شيخا يدرسه له، وبقي يحفظه دون وعي بمضمونه، كعلامة تحد، وبرهان علو همة، حتى إذا قذفت الأقدار بالعالم الكبير والعلم الشهير “محمد سالم بن الشين”، إلى بلاد محمد محفوظ بن محمد الأمين، بلاد الحوض، فما كان منه حين علم به، إلا أن بادر إليه ينهل من معينه، ويتعلم منه كل طارف، ويصحح عليه كل تليد، فكان مبتدءا معه “بالمنطق”، الذي ردده من قبل متربصا أربعة أشهر…

الأحلام.. والهجرة:

اكتمل العقد، وانتهى الأخذ لتبدأ مرحلة العطاء الأولى، التي تميزت على غير العودة، بكون أغلب تلامذة الرجل من أترابه، وأصدقائه، ما يوحي بفتوته، وشبابه، وتقدمه على أترابه؛ وما إن تحقق الحلم، وأكمل الرجل العلوم الموجودة في المنطقة، وما وفد إليها من علوم، وما حصلته رحلته إلى ولاتة من معارف، وبدأ يعطي حتى كان واقع آخر قد فرض نفسه، وأرغم الساكنة المؤمنة الطيبة على التعاطي معه…

لم يكن هذا الواقع غير اكتمال سيطرة الغزاة الفرنسيين على أرض المسلمين السائبة التي يسكن الشيخ الشاب محمد محفوظ ولد محمد الأمين في أقاصيها الشرقية؛ ليس ذلك فقط، بل إن خلافا داخليا حول الهجرة عن البلاد المستعمر وجوبا أو جوازا قد اشتد ونقاشا فيه قد احتدم…

كان عود العلم طريا، والتعامل مع النص حاضرا في ذهن الشاب الشيخ، فقرر –رفقة آخرين- (بعد شورى موسعة، وفتاوى متواترة على نفس النتيجة)، تنفيذا للواجب المرحلي “الهجرة”.

خرج الشيخ من بلاد ألفها، وعرف العلم فيها ويستعد للتبليغ.. خرج مكرها ورمت به رحى الأحداث (خلافا لما كان يقصد أصلا، إذ كان يقصد الحجاز) إلى حيث مدينة العلم فاس، وقد نهل في الطريق علوما كثيرة عن الحياة مضافة إلى العلوم السابقة، علمته الطريق أن الاستعمار عم جميع الأقطار وأن الفرار منه يكاد لا يكون إلا إليه، كما علمته أن الرجل لا يكفيه من جواز السفر إحساسه بالظلم ورفضه للرضوخ، وحمله لنفس حرة، وعلم غزير وثقافة واسعة، بل لا بد من جواز خاص يسمى “الباسبور” يجوز العبور به وحده فهو المغني عن غيره، الذي لا يغني عنه غيره.

كما علمه المقام أن في العالم الجديد كل جديد، فلا خروج للحطب في المساء، بل في الدار شهاب يقع فوق رؤوس أهليها دون أن يحرقهم أو يؤذيهم برماده، كما أن نزح الآبار الذي تعوده الشيخ وكيف نفسه معه، اكتفي منه -في العالم الجديد على الشيخ- بضغطة زر، وتقليب مفتاح.. فهذه حياة كلها دهشة وكلها عجب عجاب!!.

…وجد الرجل نفسه في فاس وما إن استقر فيها حتى شهد له علماؤها بالتمكن والأهلية، فأكرموا نزله، ووسعوا له المدخل نحو التعلم في جامعات المغرب المتأسسة حينها، فكان طالبا جامعيا بالمغرب، ومدرسا في مدارس حرة…

ولم يشغل عالم الثقافة الشاب الشيخ عن هموم بلده، وأحلام من خلفهم وراء ظهره، فكان عضوان ناشطا، وكاتبا مواكبا لحركة النهضة، ومجلة “شنقيط”، كان ذاك ما يتيحه الوقت.. ولا بد مما ليس منه بد…

عاش الرجل تلك الفترة معززا مكرما، يجد الكتب بأنواعها والمراجع على اختلافها.. والعلماء بطبقاتهم.. (فكان علالا من نهل الفاسي، ومنتقيا من مختارات السوسي) لا يكدر صفوه إلا حنين إلى وطن يسهره حين يهجع الخليون، ويئن به حين يستريح القاطنون…

عودة الغائب..:

حاولت ظروف الحياة المغربية الإغراء بكل مفاتنها، وإبداء كل زهرتها، لتستهوي الشيخ المهاجر، فكان النساء، وكان البنون، وكان جمال الطبيعة، وبيئة العلم، لكن قلب الرجل ظل معلقا بالحبيب الأول، أو الوطن الأول، الذي لم يحدد مقص الاستعمار حدوده، ولم تجعل له تقلبات الزمان سميا؛ حتى إذا كان الاستقال، وتشبث بالشيخ كل متشبث، وتعلق به كل حبيب، عرف علمه، وعمله، وخلقه ودينه، ودع المتشبثين، كما يودع الطيفُ الوسنانَ، وترك المغرب على حبه، وردد مع أبي تمام على لسان الدهر قول الشاعر:

“صرف فؤادك حيث شئت من الهوى

ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزل في الأرض يألف الفتى

وحنينه أبدا لأول منزل”

عاد الشيخ إلى حيث شب وترعرع وأخذ العلم، وارتوى من الثقافة، لكن عاد بغير الروح الذي ذهب به، بل زادت آفاقه سعة، واهتماماته تعددا؛ فلم يعد ابن المنطقة التي ولد فيها، ولا حكرا على الأسرة التي احتضنته، بل عاد ليكون ابن المولود الجديد موريتانيا، يبث فيها الخير وينشر فيها العلم، ويرويها من معين الثقافة.

ورغم شوقه إلى البلد، ومخالفته نصائح الفاسي، بالمقام في المغرب، فلم تكن الطريق إلى موريتانيا محفوفة بالورود، بل كان في استقباله اعتقال دام عدة أشهر، وتلقى فيه عنت التحقيق، وعناء التشكيك، والاتهام، ليكون ذلك كفارة عن صلته بحركة النهضة، وتوبة من كلماته في جريدة شنقيط…

لم ينهي الاعتقال والتحقيق سوى بركات أيام العطاء، في الشرق الموريتاني؛ حيث كانت شهادة أحد التلامذة السابقين في الحوض، دليلا قاطعا على براءة الشيخ الشاب من تهم الولاء للمغرب والجاسوسية على بلد كلف به، وبذل كل غال ونفيس من أجل الرجوع إليه…

وكانت مرحلة جديدة هي مرحلة العطاء من خلال الإذاعة الوطنية.

عاش الشيخ في الإذاعة الوطنية باقي عمره، يبث العلم عبر أثيرها، ويعطي من خلالها التوجيه والإرشاد، دون احتكار للعلم، ولا ادعاء للحق، لكن آفاق الإذاعة الضيقة التي لا تعطي الوقت إلا محددا، غير مناسب للشيخ، وآفاقه الواسعة، فجعل منها محظرة، يدرس العلم داخل مباينها، ويضيق بها حين يرتفع النهار، فيتجه إلى حيث ينتظره طلابه، في الدار وما حولها…

أعطى الشيخ الإذاعة 43 عاما من عمره، كانت هي الباقي في جعبته.. لكنها لم تشغله عن العلم والاشتغال به، ليس بثا فحسب، بل تأليفا، واختصارا، في مجالات شتى تدل على سعة الأفق، والاطلاع.. وصلت إلى أزيد من ثلاث وثمانين مؤلفا موزعة على مجالات شتى من بينها الفلسفي السياسي والاقتصادي، والقانوني، والتاريخي، واللغوي، إضافة إلى علوم الشرع بشتى تفريعاتها، من قرآن وسنة، وفقه وسلوك، بل ويصل بها التنوع، إلى إدماج الموسيقى ضمن ميدان تحركها…

الوداع الأخير:

وفي يوم الأحد الثاني من شوال، عام 1427هـ الرابع والعشرين من أكتوبر عام 2006، كان محبو الشيخ وبنوه والمقربون منه، بل ومن أفادوا من علمه ورأوا فيه المثال الحي للعالم الموريتاني السليم القلب الطاهر الطوية، المحسن الظن بالمؤمنين، الباحث للعاثرين عن أحسن المخارج القوي اللهجة فيما اقتنع بأنه الحق، دون تزلف، ولا تكبر.. كانوا على موعد مع أحد الأيام السود، والتوديعات التي لا رجعة بعدها، فأسلم الشيخ الروح لباريها مخلفا بعده فلذات أكباده، ومؤنسي روحه، من كتب، وأولاد، وأوراد، لتفقد الإذاعة صوتا طال ما آنس المفتين، وفرج الهم عن السائلين، وأمر بمعروف وسعى لإصلاح…

فرحم الله الشيخ محمداً المحفوظ رحمة واسعة، وأسكنه فسيح راجعون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى